فصل: الشاهد الثالث بعد الثلاثمائة(br)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: خزانة الأدب وغاية الأرب ***


الشاهد الموفى ثلاثمائة

وهو من شواهد سيبويه‏:‏ الطويل

أقامت على ربعيهما جارتا صف *** كميتا الأعالي حونتا مصطلاهما

على أنّ الصفة المشبهة قد تضاف إلى ظاهرٍ مضاف إلى ضمير صاحبها‏.‏

ينبغي أن تشرح أولاً ألفاظه اللغويّة حتى يظهر ما ينبني عليه من المسألة النحوية فنقول‏:‏ هذا البيت للشمّاخ بن ضرار، وقد تقدّمت ترجمته في الشاهد الحادي والتسعين بعد المائة وقيل هذا بيت‏.‏

وهو مطلع القصيدة‏:‏

أمن دمنتين عرّس الرّكب فيهم *** بحقل الرّخامى قد أنى لبلاهما

وقد أوردهما معاً سيبويه في كتابه وبعدهما‏:‏

وإرث رمادٍ كالحمامة مائلٍ *** ونؤيان في مظلومتين كداهما

أقاما لليلى والرّباب وزالت *** بذات السّلام قد عفا طللاهما

ففاضت دموعي في الرّداء كأنّه *** عزالي شعيبي مخلفٍ وكلاهما

قوله‏:‏ امن دمنتين ، الجار متعلّق بمحذوف تقديره أتحزن وأتجرع من دمنتين رأيتهما فتذكرت من كان يحلّ بهما‏.‏ والاستفهام تقريريّ، والخطاب لنفسه‏.‏ ذكر في هذه الأبيات أنه رأى منازل حبائبه، وأنه لم يبق فيها غير الأثافي والرماد والنؤي‏.‏ والدّمنة بالكسر‏:‏ الموضع الذي أثّر فيه الناس بنزولهم وغقامتهم فيه‏.‏ والتعريس‏:‏ نزول المسافرين في آخر الليل قليلاً للاستراحة ثم يرتحلون‏.‏

وروي بدله‏:‏ عرّج الرّكب والتعريج‏:‏ أن يعطفوا رواحلهم في الموضع ويقفوا فيه‏.‏ والرّكب‏:‏ ركاب الإبل، جمع راكب‏.‏ والحقل بفتح المهملة وسكون القاف‏:‏ القراح الصّلب، وهي المزرعة التي ليس عليها بناء ولا شجر‏.‏ والرّخامى بضم الراء بعدها خاء معجمة وآخره ألف مقصورة، وهو شجر مثل الضال وهو السّدر البرّيّ‏.‏ وبحقل الرّخامى حال من الضمير في فيهما‏.‏ وأنى بالنون فعل ماض بمعنى حان‏.‏ والبلى بكسر الموحدة‏:‏ الفناء والذّهاب بالمرّة، واللام زائدة أي‏:‏ قد حان بلاهما‏.‏

وقد روى كثيرٌ بدلهم‏:‏ قد عفا طللاهما ، وهذا غير صواب، لأنه يتكررّ مع ما بعده‏:‏ وقوله‏:‏ أقامت على ربعيهما الخ أي‏:‏ بعد ارتحال أهلهما‏.‏ والرّبع‏:‏ الدار والمنزل‏.‏ وضمير المثنّى للدمنتين، خلافاً للسيد المرتضى في أماليه فإنّه قال‏:‏ يعني بربعيهما منزلي الأمرأتين اللتين ذكرهما، مع أنه لم يقدّم ذكرهما بل أخرهما كما رأيت‏.‏ وجارت‏:‏ فاعل أقامت، وهو مضاف‏.‏ والصّفا بفتح الصاد المهملة والفاء‏:‏ الصخر الأملس، واحدة صفاة، وهو مضاف إليه‏.‏

قال السيّد المرتضى في أماليه‏:‏ ويعني بجارتا صفاً، الأثفيّتين، لأنّهما مقطوعتان من الصّفا الذي هو الصخر‏.‏

ويمكن في قوله‏:‏ جارتا صفا، وجهٌ آخر هو أحسن من هذا، وهو أنّ الأثقيّتين توضعان قريباً قريباً من الجبل لتكون حجارة الجبل ثالثة لهما، وممسكةً للقدر معهما، ولهذا تقول العرب‏:‏ رماه بثالثة الأثفي أي‏:‏ بالصخرة والجبل انتهى‏.‏

وعلى هذا الأخير اقتصر ابن السيرافيّ في شرح أبيات سيبويه ، وتبعه الجماعة، قال‏:‏ الصّفا هو الجبل في هذا الموضع، وجارتاه‏:‏ صخرتان تجعلان تحت القدر، وهما الأثفيّتان اللتان تقربان من الجبل، فيقوم الجبل مقام صخرة ثالثة تكون تحت القدر، ومقتضى المعنى أنّ في كلّ من الرّبعين جارتا صفا لا أنّ في مجموع الربعين جارتا صفا‏.‏

وقوله‏:‏ كميتا الأعالي‏.‏‏.‏الخ هو صفة جارتا صفا، وهو تركيب إضافيّ مثله، وهو مثنّى كميت بالتصغير من الكمتة، وهي الحمرة الشديدة المائلة إلأى السواد‏.‏ واراد بالأعالي أعالي الجارتين، قال الأعلم‏:‏ يعني أنّ الأعالي من الأثفيّتين لم تسود لبعدها عن مباشرة النار، فهي على لون الجبل‏.‏

وكذلك قال السيد المرتضى‏:‏ شبّه أعلاهما بلون الكميت؛ وهو لون الحجر نفسه، لأن النّار لم تصل إليه فتسوّده‏.‏

وقال ابن السيرافيّ، وتبعه من بعده‏:‏ يريد أنّ أعالي الأثافي ظهر فيها لون الكمتة من ارتفاع النّار إليها‏.‏ وقوله‏:‏ جونتا مصطلاهما نعتٌ ثان لقوله‏:‏ جارتا صفا، وهو تركيب إضافيّ أيضاً، وليس بمرادٍ هنا‏.‏

ومن الغريب قول النحّاس‏:‏ إنّ الجون هنا هو الأبيض‏.‏ والمصطلى‏:‏ اسم مكان الصّلاء، أي‏:‏ الاحتراق بالنّار، فيكون المصطلى موضع إحراق النار‏.‏

يريد أن أسافل الأثافي قد اسودّت من إيقاد النّار بينها‏.‏ والضمير المثنّى في مصطلاهما، عند سيبويه، لقوله جارتا صفا؛ وعند المبّرد، للأعالي كما يأتي بيانهما‏.‏ وزعم بعض فضلاء العجم في شواهد المفصّل أنّ الكمتة هنا السّواد‏.‏ وهذا غير صواب‏.‏

وقوله‏:‏ وإرث رماد الخ هو معطوف على فاعل أقامت‏.‏ وإرث كلّ شيء‏:‏ أصله، وهو بالكسر وآخره ثاء مثلثة‏.‏ والحمامة هنا‏:‏ القطاة‏.‏ شبّه لون الرّماد بريش القطاة‏.‏ وماثل‏:‏ منتصب‏.‏ والنؤي ، بالضم‏:‏ حفيرة تحفر حول الخباء يجعل ترابه حاجزاً لئلاّ يدخل المطر‏.‏

قال شارح الديوان‏:‏ والمظلومة‏:‏ الأرض الغليظة التي يحفر فيها في غير موضع حفر‏.‏ والكدية بالضم‏:‏ الأرض الغليظة التي ظلمت كداها، أي‏:‏ حفر فيها في غير موضع حفر‏.‏

وقوله‏:‏ أقاما لليلى الخ قال شارح الديوان‏:‏ أي‏:‏ هذان الطللان أقاما بعد أهلهما‏.‏ أشار إلى أنّ اللام في لليلى بمعنى بعد‏.‏ وذات السلام‏:‏ موضع‏.‏ وعف‏:‏ تغيّر‏.‏ والطّلل ، قال الأعلم‏:‏ هو ما شخص من علامات الدار وأشرف كالأثفية والوتد ونحوهما؛ وإن لم يكن له شخص كأئر الرماد وملاعب الغلمان فهو رسم‏.‏

وقوله‏:‏ كأنّها عزالي الخ هو جمع عزلاء بفتح مهملةٍ وسكون معجمة، وهي فم القربة، ومصبّ الماء من المزادة‏.‏ والشّعيبان‏:‏ المزادتان، قال أبو عبيد‏:‏ الشّعيب والمزادة والرواية والسّطحية شيءٌ واحد‏.‏ والمخلف‏:‏ المستقي‏.‏ والكلى‏:‏ الرّقاع التي تكون في المزادة، وأحدها كلية‏.‏

هذا‏.‏ وأما محلّ الشاهد قوله‏:‏ جونتا مصطلاهما فإنه أضاف جونتا إلى مصطلاهما‏.‏ قال السيرافيّ‏:‏ جونتا مثنّى وهو بمنزلة حسنتا، وقد أضيفا إلى مصطلاهما، ومصطلاهما يعود إلى جارتا صفا، ومعنى جارتا صفا الأثافيّ، والصفا هو الجبل، وإنما يبنى في أصل الجبل في موضعين ما يوضع عليه القدر، ويكون الجبل هو الثالث، فالبناء في موضعين هما جارتا صفا‏.‏

وقوله‏:‏ كميتا الأعاللي ، يعني أنّ الأعالي من موضع الأثافيّ، لم تسود لأنّ الدّخان لم يصل إليها فهي على لون الجبل، وجعل الأعلى من الجبل أعالي الجارتين‏.‏ وجونتا مصطلاهما يعني مسودّتا المصطلى يعني الجارتين مسودّتا المصطلى، وهو موضع الوقود‏.‏

وقد أنكر هذا على سيبويه وخرّد للبيت ما يخرج به عن‏:‏ حسن وجهه وحسنة وجهها، قال‏:‏ وذلك أنّه لا خلاف بين النّحويين أنّ قولنا زيد حسن وجه الأخ جيّد بالغ، وأنّه يجوز أن يكنى عن الأخ فنقول زيد حسن وجه الأخ جميل وجهه، فالهاء تعود إلى الأخ لا إلأى زيد، فكأنا قلنا زيد حسن وجه الأخ‏.‏ جميل وجه الأخ‏.‏

قال‏:‏ فعلى هذا قوله كميتا الأعالي جونتا مصطلاهما، كأنه قال جونتا مصطلى الأعالي، فالضمير في الصطلى يعود إلى الأعالي لا إلى الجارتين، فيصير بمنزلة قولك‏:‏ الهندان حسنتا الوجوه مليحتا خدودهما‏.‏ فإن أردت بالضمير في خدودهما الوجوه كان كلاماً مستقيماً، كأنّك قلت حسنتا الوجوه مليحتا خدود الوجوه‏.‏ فإن أردت بالضمير الهندين فالمسألة فاسدة، فكذلك جونتا مصطلاهما إن أردت بالضمير الأعالي فهو صحيح، وإن أردت بالضمير الجارتين فهو رديء، لأنّه مثل قولك هند حسنة وجهها‏.‏

قال‏:‏ فإن قال قائل‏:‏ فإذا كان الضمير في مصطلاهما يعود إلى الأعالي فلم يثنّى، والأعالي جمع‏؟‏ قيل له‏:‏ الأعالي في معنى الأعليين، فردّ الضمير إلى الأصل‏.‏

ومثله‏:‏ الوافر

متى ما تلقني فردين ترجف *** روانف أليتيك وتستطارا

فردّ تستطار إلى رانفتين،لأن روانف في معنى رانفتين‏.‏ وعلى هذا يجوز أن تقول الهندان حسنتا الوجوه جميلتا خدودهنّ، لأنّ الوجوه في معنى الوجهين، فكأنّك قلت‏:‏ جميلتا خدود الوجهين‏.‏

قال أبو بكر بن ناهض القرطبيّ‏:‏ هذا التأويل حسن في إعادة الضمير الذي في مصطلاهما إلى الأعالي، لولا ما يدخل البيتين من فساد المعنى، وذلك أنّك إذا قلت‏:‏ كميتا الأعالي جونتا مصطلاهما، إنّ معناه اسودّت الجارتان واصطلى أعاليهما؛ كما أن معنى قولك الهندان حسنتا الوجوه مليحتا خدودهما، إنّما المعنى حسنت وجوههما وملحت خدودهما، فكذلك يجب أن يكون مصطلاهما إذا أعيد الضمير إلى الأعالي أن يكون قد اصطلت الأعالي، وإذا اصطلت الأعالي فقد اسودّت، وهو بخير أنّهما لم يسودّا لأنّهما لم يصل الدّخان إليهما‏.‏

والدليل على ذلك أنّه وصف الأعالي بالكمته ولم يصفها بالسّواد كما وصف الجارتين، فلا يشبه هذا قولك الهندان حسنتا الوجه مليحتا خدودهما؛ لأنّ كلّ واحدٍ من هذين الضميرين قدج ارتفع بفعله، وكذلك يجب أن يرفع ضمير الأعالي بفعله، فيكون على هذا الأعالي قد اصطلت بالنّار، وهذا خلاف ما أراد الشاعر، لأنه ذكر أنه لم يصطل منها غير الجارتين وأنّ الأعالي لم يصل إليها الدخان‏.‏ فهذا خلاف ما نظره النحويون وقاسوه‏.‏ فلا بدّ من الذهاب في معنى البيت إلى ما ذهب إليه سيبويه، من أنّ الضمير في مصطلاهما يعود على الجارتين‏.‏ انتهى‏.‏

وقد ردّ ما ذهب إليه المبّرد ابن جنّي أيضاً بوجه غير هذا، قال في باب الحمل على المعنى من الخصائص‏:‏ اعلم أنّ العرب إذا حملت على المعنى لم تكد تراجع اللفظ، كقولك شكرت من أحسنوا إليّ على فعله‏.‏

ولو قلت شكرت من أحسن إلي على فعلهم جاز، ولهذا ضعف عندنا أن يكون هما من مصطلاهما في قوله‏:‏ كميتا الأعالي جونتا مصطلاهما، عائداً على الأعالي في المعنى إذا كانا فاعلين اثنين، لأنّه موضع قد ترك فيه لفظ التثنية حملاً على المعنى لأنّه جعل كلّ جهة منهما أعلى، كقولهم‏:‏ شابت مفارقة، وهذا بعيرٌ ذو عثانين، ونحو ذلك‏.‏ ولأنّ الأعليين شيئان من شيئين، فإذا كان قد انصرف عن اللفظ إلى غيره ضعفت معاودته إيّاه، لأنّه انتكاث وتراجع فجرى ذلك مجرى إدغام الملحق وتوكيد ما حذف‏.‏ على أنّه قد جاء منه شيء قال‏:‏ الطويل رؤوس كبيريهنّ ينتطحان وأما قوله‏:‏ البسيط

كلاهما حين جدّ الجري بينهم *** قد أقلعا وكلا أنفيهما رابي

فليس من هذا الباب وإن كان قد عاد من بعد التثنية إلى الإفراد؛ وذلك أنه لم يقل كلاهما قد أقلعا وأنفه رابٍ فيكون ما أنكرناه، لكنه قد أعاد كلا أخرى غير الأولى فعاملها على لفظها‏.‏ ولم يقبح ذلك لأنّه قد فرغ من حديث الأولى ثم استأنف من بعدها أخرى، ولم يجعل الضميرين عائدين إلى كلا واحدةٍ‏.‏

وهذا كقولك‏:‏ من يقومون أكرمهم ومن يقعد أضربه‏.‏ ولا يحسن ومنهم من يستمع إليك حتّى إذا خرجوا من عندك لما ذكرناه‏.‏ وهذا واضح فاعرفه‏.‏ انتهى‏.‏

وهذا مأخوذ من كلام أبي عليّ في المسائل البغداديات وقد بسط القول على هذا البيت، فلا بأس بإبراد كلامه قال‏:‏ فأما قوله‏:‏ جونتا مصطلاهما، فقد قدّره سيبويه تقدير حسنة وجهها وجعل قياسه كقياسه، وكان حكمه عنده - إن أجراد على الأصل دون الحذف - أن يقول‏:‏ جارتا صفاً جونٌ مصطلاهما فيجرى جونٌ على الجارتين فيرتفع بجريه عليهما، لأنّهما مرفوعتان، ثم يرتفع المصطلى بجون ويعود ضمير التثنية على الجارتين، فيكون كقولك‏:‏ الهندانحسنٌ ثوبهما وهند حسنٌ وجهها‏.‏

وإن أجراه على الحذف دون الأصل أن يقول‏:‏ أقامت على ربيعيهما جارتا صفاً جونتا المصطليات، فيمن قال الهندان حسنتا الوجوه، وفيمن قال صفا رحليهما، جونتا المصطلين، فيصير كقولك الهندان حسنتا الثوبين‏.‏ فلم يستعمله على الإتمام والأصل، ولا على الاختصار والحذف، ولكن جعله كقولك‏:‏ هذه امرأة حسنة وجهها، فثنّى الجونة وهما وصفا الجارتين وأضافه مثنّى إلى المصطلى، وهو هما في المعنى، إلاّ أنّه وضع الواحد موضع الجمع فيمن قال‏:‏ حسان الوجوه، وموضع التثنية فيمن قال‏:‏ صفا رحليهما، وهو المصطلى، ألا ترى أنّ لكل واحدة من الجارتين مصطلى‏.‏

وإن وجّهته على أنّ المصطلى يكون جميع ذلك وأحد، لم يضع واحداً موضع جمع، ثم أضاف مصطلى إلى ضمير الجارتين كما أضاف الوجه في قوله هذه امرأة حسنة وجهها إلأى ضمير المرأة بعد إضافة حسن الذي هو الوجه في المعنى إلى الوجه‏.‏ فعلى هذا وضع سيبويه هذا البيت‏.‏

وقد يحتمل غير ما تأوّله، وهو ما ذكره بعضهم‏:‏ من أنّ الشاعر إنّما ردّ الضمير المثنّى في قوله مصطلاهما إلى الأعالي، لأنه في الحقيقة اثنان‏.‏

وهذا مثل قوله‏:‏ الطويل

رأت جبلاً فوق الجبال إذا التقت *** رؤوس كبيريهنّ ينتطحان

ولست أعرف من قائل هذا القول، إلاّ أنّه ليس بممتنع‏.‏ ويخرج الكلام به من أن يكون على قولك‏:‏ هند حسنة وجهها، لأنّ الضمير المثنّى على هذا في قوله مصطلاهما، ليس يرجع إلى الجارتين، إنّما يرجع إلى الأعالي؛ لأنّ الأعالي وإن كان مجموعاً في اللفظ فهو اثنان في المعنى، فحمله على ذلك، فكأنه قال جونتا مصطلاهما الأعالي‏.‏

وإذا كان كذلك لم يكن على حسنة وجهها، لأن الجونة لم تضف إلى اسم يتّصل به ضمير يعود من الاسم الذي بعد الصفة في قولك هند حسنة وجهها ضميرٌ يعود إلى هند، لكون الضمير العائد إلى الجارتين محذوفاً، كما أنّ الضمير من هند حسنة الوجه ودعد حسنة وجه الأب محذوف، فلذلك أنّث جونة من قوله جونتا مصطلاهما، كما أنّث حسنة في قولك هند حسنة الوجه، لأنه لم يعد فيه إلى هند ضمير‏.‏

وقياس هذا إذا رفع الاسم بالصفة ولم تصف الصفة إلى ما هو فاعلها في المعنى كحسنٌ وجهٌ حسنٌ الوجه، أن يقال جارتا صفاً جونٌ مصطلاهما أعاليهم وأعلييهما، فمصطلاهما في موضع رفع مثل قولك هاتان امرأتان حسنٌ غلام أبويهما‏.‏ وعيب هذا القول الذي قاله هذا القائل، هو أنّ التثنية حملت على أنّها جمع، وذلك بعيد، لأنا وجدناهم يجعلون الاثنين على لفظ الجمع في نحو قوله عزّ وجل‏:‏ ‏{‏إذ تسوّروا المحراب وقد صغت قلوبكما وبابه، ولم نرهم يجعلون لفظ التثنية للجمع‏.‏

إلاّ أنّه لا يمتنع ذلك في هذا الموضع، لأنّ المجموع الذي هو قولنا‏:‏ الأعالي هنا اثنان في الحقيقة، فحمله على المعنى، واستعمل اللغتين في نحو هذا جميعاً؛ فحمل الأوّل على قوله‏:‏ فقد صنعت قلوبكما والثاني على صفا رحليهما‏.‏ وليس ذلك بحسن، لأنّ الراجع أن يكون على لفظ المرجوع إليه أحسن، إلاّ أن ذلك لا يمتنع‏.‏

ففي هذا التأويل تخليص للشعر من عيب وإدخاله في عيب آخر‏.‏ انتهى كلام أبي عليّ‏.‏

ومثله لابن السّرّاج في الأصول قال‏:‏ وقد حكى سيبويه أنّ بعضهم يقول زيد حسن وجهه شبهوه بحسن الوجه، واحتجّ بقوله جونتا مصطلاهما، فجعل المصطلى هاهنا في موضع خفض، والهاء والميم راجعة إلى الاثنين وهما جارتا صفا‏.‏ وكان حقّه أن يقول جونتا المصطلين‏.‏

وقال غيره‏:‏ ليس المعنى على هذا والهاء والميم ترجع إلى الأعالي وإن كانت جمعاً، لأنّ معناهما معنى اثنين، وإنّما جمعت لأنّها من اثنين كما قال‏:‏ الرجز ظهراهما مثل ظهور التّرسين‏.‏

فكان معنى الشعر مصطلى الأعالي‏.‏ ونظير هذا‏:‏ هند فارهة العبد حسنة وجهه‏.‏ تريد حسنة وجه العبد‏.‏ ولو قلت حسنة وجهها كنت قد أضفت الشيء إلى نفسه‏.‏ وسيبويه إنّما ذكر هذا البيت على ضرورة الشاعر والغلط عندي‏.‏

ثم قال في آخر الكتاب، في ذكر ما جاء كالشاذّ الذي لا يقاس عليه‏:‏ وهو سبعة، منه تغيير وجه الأعراب للقافية تشبيهاً بما يجوز‏:‏ قال‏:‏ ومّما يقرب من هذا قوله جونتا مصطلاهما، وإنما الكلام المصطلين، فردّه إلى الأصل في المعنى، لأنّك إذا قلت‏:‏ مررت برجل حسن الوجه فمعناه حسن وجهه، فإذا ثنيتقلت مررت برجلين حسني الوجه، فإن رددته إلى أصله قلت برجلين حسن وجوههما‏.‏ فإذا قلت وجوههما لم يكن في حسن ذكرٌ مّما قبله، وإذا أتيت بالألف واللام وأضفت الصفة إليها كان في الصفة ذكر الموصوف‏.‏ فكان حق هذا الشاعر لّما قال مصطلاهما أن يوحّد الصفة فيقول‏:‏ جون مصطلاهما‏.‏ انتهى‏.‏

فقد بان لك مما نقلنا عنهم، وهم أرباب النقد في هذا العلم، أن الرادّ عى سيبويه ليس المبّرد، لا سيّما أبو عليّ فإنه قال‏:‏ لا أعرف قائل هذا القول‏.‏ والشارح المحقق قال هو المبّرد‏.‏ وفوق كلّ ذي علمك عليم‏.‏ والله أعلم‏.‏

وقد تكلّم على هذا البيت في باب الصفة المشبّهة أيضاً وقال‏:‏ كلام المبّرد تكلّف، والظاهر مع سيبويه‏.‏

وأنشد بعده‏:‏ وهو

الشاهد الحادي بعد الثلاثمائة

الطويل

رحيب قطاب الجيب منها رقيقةٌ *** بجسّ النّدامى بضة المتجردّ

على أنّ إضافة رحيب إلى قطاب في حكم إضافة جونتا إلى مصطلاهما، في القبح‏.‏ قال السيرافيّ‏:‏ ومما يدخل في هذا النحو قول طرفة‏:‏ رحيب قطاب الجيب البيت، وهذه الإضافة رديئة بمنزلة حسنة وجهها، وذلك أنّ الأصل وهو الإنشاد الصحيح‏:‏ رحيب قطاب الجيب بتنوين رحيب، فقطاب يرتفع برحيب وضمير منها يعود إلى الأوّل، فإذا أضفنا رحيب فقد خلا منه الضمير العائد، فلا معنى لمنها على ما بيّنّا في حسنة الوجه، وكذلك لا يحسن أن تقول زيد حسن العين منه‏.‏ انتهى‏.‏

وهذا البيت من معلقة طرفة بن العبد، وقبله‏:‏

نداماي بيضٌ كالنجوم وقينةٌ *** تروح علينا بين بردٍ ومجسد

رحيب قطاب الجيب منها‏.‏‏.‏ ***‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏البيت

إذا نحن قلنا أسمعينا انبرت لن *** على رسلها مطروفةً لم تشدّد

إذا رجعت في صوتها خلت صوته *** تجاوب أظآرٍ على ربعٍ ردي

وما زال تشرابي الخمور ولذّتي *** وبيعي وإنفاقي طريفي ومتلدي

إلى أن تحامتني العشيرة كلّه *** وأفردت إفراد البعير المعبّد

رأيت بني غبراء لا ينكرونني *** ولا أهل هذاك الطّرف الممدّد

قوله‏:‏ نداماي بيضٌ الخ ، النّدامى‏:‏ الأصحاب، يقال‏:‏ فلانٌ نديم فلان إذا شاربه، وفلانة نديمة فلان‏.‏ ويقال ذلك أيضاً إذا صاحبه وحدّثه وإن لم يكونوا على شراب‏.‏

قال أبو جعفر‏:‏ سمّي النّديم نديماً لندامة جذيمة الأبرش، حين قتل مالكاً وعقيلاً ابني فارج، اللذين أتيا ه بعمرو ابن أخته، فسألاه أن يكون في سمره، فوجد عليهما فقتلهما وندم، فسمّي كل مشارب نديماً‏.‏ وواحدهم ندمانٌ ونديم، والمرأة ندمانة ونديمة، ويقال من النّدم ندمان وندمى‏.‏

وقوله‏:‏ بيض كالنجوم ، أي‏:‏ هم ساداتٌ مشاهير كالنجوم‏.‏ وقوله‏:‏ وقينة ، معطوف على بيض‏.‏ والقينة‏:‏ المغنّية، وكلّ أمة قينة، وإنما قيل لها قينة لأنها تعمل بيديها مع غنائها‏.‏ والعرب تقول لكّل من يصنع بيديه شيئاً قين‏.‏ ومعنى تروح علينا تجيئنا عشيّاً‏.‏

وروى‏:‏ تروح إلينا ‏.‏ والبرد‏:‏ ثوب وشيٍ‏.‏ ومجسد ، هو بضم الميم وسكون الجيم وفتح السين، قال الأعلم في شرح المعلّقة‏:‏ المجسد‏:‏ المصبوغ بالزعفران المشبع‏.‏ والجساد ، بالفتح‏:‏ الزعفران‏.‏

وقال ابن السكّيت في شرح ديوانه‏:‏ المجسد‏:‏ الثوب الذي يلي الجسد، وهو الشّعار‏.‏

والمعنى على الأول تأتينا بالعشيّ تارة وعليها بردٌ، ومرّةٌ وعليها ثوب مصبوغ بالزعفران‏.‏ والمعنى على الثاني تأتينا وعليها هذان الثوبان‏.‏

وقوله‏:‏ رحيب قطاب الجيب الخ روي بإضافة رحيب إلى قطاب وتقدّم بيان ضعفه، وروي تنوين رحيب ورفع قطاب وهو الإنشاد الثابت الصحيح، فيكون رحيب صفة سببيةً لقينة، فيكون الرحب وصفاً للقينة في اللفظ ووصفاً لقطاب الجيب في المعنى، لأن المعنى رحب قطاب جيبها، أي‏:‏ اتّسع‏.‏ وضمير منها للقينة‏.‏ وقطاب الجيب، بالكسر‏:‏ مجتمعه حيث قطب، أي‏:‏ جمع، وهو مخرج الرأس من الثوب‏.‏ والرّحيب‏:‏ الواسع، وإنّما وصف قطاب جيبها بالسّعة لأنّها كانت توسّعه ليبدو صدرها فينظر إليه ويتلذّذ به‏.‏ وليس المعنى أنّ عنقها واسع فيحتاج إلأى أن يكون جيبها واسعاً - كما توهمه أبو جعفر النحوي والخطيب التّبريزيّ - فإنّ هذا الوصف ذم‏.‏

وقوله‏:‏ رفيقة ، بفاء وقاف من الرفق، وهو اللين والملاءمة‏.‏ وروي رقيقة بقافين من الرّقة وهو ضدّ الغلظة‏.‏ والجسّ ، بفتح الجيم‏:‏ اللمس، أي‏:‏ لمس أوتار اللهو‏.‏ أي‏:‏ استمرت على الجسّ فهي رفيقة به حاذقة‏.‏ وقيل جسّ النّدامى ما طلبوا من غنائها، وقيل جسّ ال،ّدامى هو أن يجسّوا بأيديهم فيلمسوها تلذّذاً كما فسّرنا أوّلاً، كما قال الأعشى‏:‏ الطويل لجسّ النّامى في يد الدّرع مفتق وكانت القينة يفتق فتيقٌ في كمّها إلى الإبط، فإذا أراد الرجل أن يلمس منها شيئاً أدخل يده فلمس‏.‏ والدّرع‏:‏ قميص المرأة، ويده‏:‏ كمّه‏.‏

وروى‏:‏ لجسّ النّدامى باللام موضع الباء‏.‏ والبضّة بفتح الموحدة وتشديد الضاد المعجمة‏:‏ البيضاء الناعمة البدن الرقيقة الجلد‏.‏ والمتجرّد، على صيغة اسم المفعول‏:‏ ما سترد الثّياب من الجسد‏.‏ يقول‏:‏ هي بضّة الجسم على التجرّد من ثيابها والنظر إليها‏.‏

وقوله‏:‏ إذا نحن قلنا الخ أسمعينا أي‏:‏ غنّينا‏.‏ وانبرت ، اعترضت وأخذت فيما طلبنا من غنائها‏.‏ ورسلها ، بالكسر بمعنى هينتها ورفقها ومهلها‏.‏ ومطروفة ، بالفاء‏:‏ الفاترة الطّرف، أي‏:‏ كأن عينها طرفت فهي ساكنة‏.‏ وقيل إنّ معناه تحدّ النظر بطرفها‏.‏ وهذا ليس بشيءٍ‏.‏

وروي‏:‏ مطروقة بالقاف، ومعناه كسترخية ليّنة‏.‏ وهو حال من فاعل انبرت‏.‏ ولم تشدّد، أصله تتشدّد بتاءين، أي‏:‏ لم تجتهد وإنّما غنّت ما سهل عليها‏.‏

وقوله‏:‏ إذا رجّعت في صوتها ، التّرجيع‏:‏ ترديد الصوت‏.‏ والأظآر‏:‏ جمع ظئر وهي التي لها ولد‏.‏ وربع ، بضمّ الراء وفتح الموحّدة‏:‏ ولد الناقة‏.‏ وردي فعل ماض من الرّدى وهو الهلاك‏.‏

يقول‏:‏ إذا طرّبت في صوتها وردّدت نغماتها حسبت صوتها أصوات نوقٍ تحنّ لهلاك ولدها‏.‏ شبّه صوتها بصوتهنّ في التحزين‏.‏

ويجوز أن يكون الأظآر النساء، والربع مستعاراً لولد الإنسان، فشبّه صوتها في التحزين والترقيق بأصوات النوادب والنّوائح على صبيّ هالك‏.‏ وهذا البيت قلّما يوجد في هذه القصيدة‏.‏

وقوله‏:‏ وما زال تشربي الخ ، التّشراب‏:‏ الشرب، وهو للتكثير‏.‏ والطريف والطارف‏:‏ ما اكتسبه الإنسان من المال‏.‏ والمتلد ، بصيغة اسم المفعول، وكذا التالد والتليد‏:‏ المال القديم الذي ورثه عن آبائه‏.‏ ومعناه المتولّد والتاء بدل الواو‏.‏

وقوله‏:‏ إلى أن تحامتني الخ أي‏:‏ تركتني‏.‏ والعشيرة‏:‏ أهل بيت الرجل والقبيلة‏.‏ والمعبّد ، بزنة اسم المفعول‏:‏ الأجرب، وقيل هو المهنوء الذي سقط وبره فأفرد عن الإبل، أي‏:‏ تركت ولذّاتي‏.‏

وقوله‏:‏ رأيت بني غبراء ، غبراء‏:‏ الأرض، وبنو غبراء الفقراء ويدخل فيهم الأضياف‏.‏ وأهل معطوف على الواو في ينكروني‏.‏ والطّراف ، بالكسر‏:‏ بنا من أدم يكون للأغنياء‏.‏ والممدّد‏:‏ المنصوب‏.‏ يقول‏:‏ إن هجرني الأقارب وصلتني الأباعد الفقراء والأغنياء، فالفقراء لإنعامي عليهم، والأغنياء لاستطابتهم صحبتي ومنادمتي‏.‏

وقد تقدّم شرح أبيات من هذه القصيدة‏.‏

وترجمة طرفة تقدّمت في الشاهد الثاني والخمسين بعد المائة‏.‏

وأنشد بعده‏:‏ وهو

الشاهد الثاني بعد الثلاثمائة

الطويل

إليكم ذوي آل النّبيّ تطلّعت *** نوازع من قلبي ظماءٌ وألبب

على أنّ إضافة ذوي آل النبي من إضافة المسمّى إلى الاسم، أي‏:‏ يا أصحاب هذا الاسم‏.‏ أراد بهذا الردّ على من زعم أنّ ذا في مثله، وكذا في الأبيات الآتية زائد‏.‏

وهذا كلّه ملخّص من كلام ابن جنّي في الخصائص وغيره وإن كان موجوداً في المفصّل وشروحه ‏.‏

وجوّزأبو عليّ في الإيضاح الشعريّ أن يكون ذو زائداً، وأن يكون على جعل الاسم المسمّى على الاتساع، لمصاحبته له وكثرة الملابسة‏.‏

قال ابن جنّي في المحتسب عند قراءة ابن مسعود من سورة يوسف وفوق كلّ ذي عالمٍ عليمٌ‏:‏ تحتمل هذه القراءة ثلاثة أوجه‏:‏ أحدها‏:‏ أن تكون من باب إضافة المسمّى إلى الاسم، أي‏:‏ فوق كل شخص يسمى عالم ويقال له عليم‏.‏ وقد كثر عنهم إضافة المسمّى إلى اسمه، منه قول الكميت‏:‏

إليكم ذوي آل النّبيّ تطلّعت *** نوازع من نفسي ظماءٌ وألبب

أي‏:‏ إليكم يا آل النّبيّ، أي‏:‏ يا أصحاب هذا الاسم الذي هو آل النبي‏.‏ وعليه قول الأعشى‏:‏ البسيط

فكذّبوها بما قالت فصبّحهم *** ذو آل حسّان يزجي الموت والشرّعا

أي‏:‏ صبّحهم الجيش الذي يقال له آل حسّان‏.‏ وهو بابٌ واسع قد تقصّيناه في كتاب الخصائص ‏.‏

والوجه الثاني‏:‏ أن يكون عالم مصدراً كالفالج والباطل‏.‏

والثالث‏:‏ أن يكون على مذهب من يعتقد زيادة ذي‏.‏ انتهى مختصراً‏.‏

وقد ذكر ابن جنّي هذه الإضافة في أكثر، قال في إعراب الحماسة عند قول طفيل الغنويّ‏:‏ الطويل

وما أنا بالمستنكر البين إنّني *** بذي لطف الجيران قدماً مفجّع

هذا من باب إضافة المسمّى إلى اسمه، أي‏:‏ إنّني بالشيّ المسمّى بلطف الجيران‏.‏ ومثله بيت الشمّاخ‏:‏ الوافر وأدرج درج ذي شطنٍ أي‏:‏ درج الشيء المسمّى ذا شطن وبشطن ومثله بيت الكميت‏:‏ إليكم ذوي آل النبي‏.‏‏.‏ البيت أي‏:‏ يا أصحاب هذا الاسم، واصحابه هم آل النبيّ صلّى عليه وسلم فكأنه قال‏:‏ إليكم يا آل النّبيّ، وأمثاله كثيرة جداً قد ذكرناها في غير موضع‏.‏ ومن ذهب إلى زيادة ذي وذات في هذا الموضع ذهب إلى زيادتها في بيت طفيل هذا أيضاً، ومعناه في التأويلين جميعاً أنّني بلطف الجيران، أي‏:‏ بوصلهم مفجّع‏.‏

وقال أيضاً في أواخر إعراب الحماسة عند قول الشاعر‏:‏ الطويل

فلما رآني أبصر الشّخص أشخص *** قريباً وذا الشّخص البعيد أقاربه

قريباً إن شئت ظرف، أي‏:‏ من قريب، وإن شئت حال، أي‏:‏ أبصره مقارباً أشخصاً، معناه أبصره وأنا قريب منه أشخصاً‏.‏

وقوله‏:‏ وذا الشّحص البعيد من باب إضافة المسمّى إلى اسمه، كقول الشماخ‏.‏‏.‏، وقول الأعشى‏.‏‏.‏، وقول الكميت‏.‏‏.‏، وأنشد الأبيات الثلاثة، ثم قال‏:‏ ومعنى أقاربه، أي‏:‏ أظنّه قريباً‏.‏ ولو جرّ البعيد هنا لم يجز، لأنّ الشخص في هذا البيت اسمٌ لا مسمّى‏.‏ ولو قلت سمّيته بزيد الظريف على هذا لم يجز، لأنّ الظرف لا توصف به الأسماء‏.‏

ثم قال‏:‏ وقد دعا خفاء هذا الموضع أقواماً إلى أن ذهبوا إلى زيادة ذي وذا في هذه المواضع، وإنّما ذلك بعدٌ عن إدراك هذا الموضع‏.‏ انتهى‏.‏

وزاد في الخصائص على ما ذكرناه أنّ أبا علي حدّثه أنّ أحمد بن إبراهيم أستاذ ثعلب روى عنهم‏:‏ هذا ذو زيد، أي‏:‏ هذا صاحب هذا الاسم الذي هو زيد‏.‏

وقد عقد لهذا باباً في الخصائص وهو باب إضافة الاسم إلى المسمّى والمسمّي إلى الاسم، وأطال الكلام فيه وأطاب، وقال‏:‏ هذا موضع كان يعتاده أبو عليّ ويألفه، ويرتاح لاستعماله، وهو فصلٌ من العربيّة غريب، وقلّ من يعتاده وينظر فيه، وقد ذكرته لتراه فتتنبّه على ما هو في معناه إن شاء الله تعالى‏.‏

ثم قال‏:‏ وفيه دليل يدلّ على فساد من ذهب إلى أنّ الاسم هو المسمّى، ولو كان إيّاه لم تجز إضافة واحدٍ منهما إلى صاحبه، لأنّ الشيء لا يضاف إلى نفسه‏.‏ قيل لأنّ الغرض من الإضافة إنّما هو التعريف والتخصيص والشيء إنّما يعرّفه غيره؛ لأنّه لو كانت نفسه تعرّفه لما احتاج أبداً إلى أن يعرّف بغيره، لأنّ نفسه في حالي تعريفه وتنكيره واحدة، وموجودة غير مفتقدة‏.‏

ولو كانت نفسه هي المعرّفة له أيضاً لما احتاج إلى اضافته إليها، لأنّه ليس فيها إلآ ما فيه، فكان يلزم الاكتفاء به عن إضافته إليها؛ فلهذا لم يأت عنهم نحو هذا غلامه، ومررت بصاحبه، والمظهر هو المضمر المضاف إليه، هذا مع فساده في المعنى، لأنّ الإنسان لا يكون أخا نفسه ولا صاحبها‏.‏

فإن قلت‏:‏ فقد تقول مررت بزيدٍ نفسه وهذا نفس الحقّ، يعني أنّه هو الحقّ لا غيره‏.‏ قيل‏:‏ ليس الثاني هو ما أضيف إليه من المظهر، وإنّما النفس هنا بمعنى خالص الشيء وحقيقته، والعرب تحلّ نفس الشيء من الشيء محلّ البعض من الكلّ، ولهذا حكوا عن أنفسهم مراجعتهم إيّاها وخطابها لهم، وأكثروا من ذكر التردّد بينها وبينهم‏.‏

ألا ترى إلى قوله‏:‏ البسيط

أقول للنّفس تأساءً وتعزيةً *** إحدى يديّ أصابتني ولم ترد

وقوله‏:‏ الرجز

قالت له النّفس تقدّم راشد *** إنّك لا ترجع إلاّ حامدا

وأمثال هذا كثير جداً، وجميع هذا يدلّ على أنّ نفس الشيء عندهم غير الشيء‏.‏

فإن قلت‏:‏ فقد تقول هذا أخو غلامه، وهذه جارية بنتها، فتعرّف الأول بما أضيف إلى ضميره، والذي أضيف إلى ضميره إنّما تعرّف بذلك الضمير، ونفس المضاف الأول متعرّف بالمضاف إلى ضميره، وقد ترى على هذا أنّ التعريف الذي استقرّ في جارية من قولك هذه جارية بنتها، إنّما أتاها من قبل ضميرها، وضميرها هو هي، فقد آل الأمر إذاً إلى أنّ الشيء قد يعرّف نفسه، وهذا خلاف ما ركبته وأعطيت يدك به‏.‏

قيل‏:‏ كيف تصرّفت الحال فالجارية إنّما تعرّفت بالبنت، التي هي غيرها، وهذا شرط التعريف من جهة الإضافة، فأما ذلك المضاف إليه، أمضاف هو أم غير مضاف فغير قادح‏.‏

والتعريف الذي أفاده ضمير الأول لم يعرّف الأول، وإنما عرّف ما عرّف الأوّل، والذي عرّف الأول غير الأوّل، فقد استمرت الصفة وسقطت المعارضة‏.‏

ويؤكذ ذلك أيضاً أنّ الإضافة في الكلام على ضربين‏:‏ أحدهما‏:‏ ضمّ الاسم إلى اسمٍ هو غيره بمعنى اللام، نحو غلام زيد‏.‏ والآخر‏:‏ ضمّ اسم إلأى اسم هو بعضه بمعنى من، نحو هذا ثوب خزٌ‏.‏ وكلاهما ليس الثاني فيه بالأوّل‏.‏ واستمرار هذا عندهم يدلّ على أن المضاف ليس بالمضاف إليه البتة انتهى‏.‏

وقول الكميت‏:‏ ذوي آل النبي هو منادى حذف منه حرف النداء، أي‏:‏ يا أصحاب هذا الاسم‏.‏ وفيه من التفخيم ما ليس في قولك يا آل النبي؛ لأنه قد جعلهم تشوّفت، وبه يتعلّق قوله إليكم‏.‏ وقدّمه للحصر، أي‏:‏ أنا مشتاق إليكم لا إلى غيركم‏.‏ ونوزاع‏:‏ جمع نازعة، من نزعت النفس إلى الشيء، أي‏:‏ اشتاقت إليه؛ ومثله نازعت نزوعاً ونزاعاً بالكسر‏.‏ وهذا كقولهم‏:‏ جنّ جنونه‏.‏ والظّماء‏:‏ العطاش، يقال‏:‏ ظمئ ظمأ بالهمز، كعطش عطشاً وزناً ومعنى، فهو ظمآن وهي ظمأى، مثل عطشان وعطشى، والجمع ظماء كسهام‏.‏ ووصف النوازع بالظماء للمبالغة في قوّتها وشدّتها‏.‏ وألبب‏:‏ جمع لبّ بضمّ، وهو العقل، وهو شاذّ والقياس ألبٌّ بالإدغام، وهو معطوف على نوازع‏.‏

وهذا البيت من قصيدة طويلة للكميت بن زيد - وقد تقدّمت ترجمته في الشاهد السادس عشر من أوائل الكتاب - مدح بها آل بيت النبي صلّى الله عليه وسلّم، وهي إحدى القصائد الهاشميّات، وهي من جيّد شعره‏.‏

وقد استشهد النّحاة بأبيات من هذه القصيدة، وهذا مطلعها مع جملة أبيات منه‏:‏ الطويل

طربت وما شوقاً إلى البيض أطرب *** ولا لعباً منّي وذو الشّيب يلعب

ولم تلهني دارٌ ولا رسم منزل *** ولم يتطرّبني بنانٌ مخضّب

ولا السّانحات البارحات عشيّةً *** أمرّ سليم القرن أم مرّ أعضب

ولكن إلى أهل الفضائل والنّهى *** وخير بني حوّاء والخير يطلب

إلى النّفر البيض الذين بحبّهم *** إلى الله فيما نابني أتقرّب

بني هاشمٍ رهط النّبيّ وإنّني *** بهم ولهم أرضى مراراً وأغضب

خفضت لهم منّي جناح مودّتي *** إلى كنفٍ عطفاه أهلٌ ومرحبٌ

بأيّ كتابٍ أم بأيّة سنّةٍ *** ترى حبّهم عاراً عليّ وتحسب

ومالي إلاّ آل أحمد شيعةٌ *** ومالي إلاّ مشعب الحقّ مشعب

ومن غيرهم أرضى لنفسي شيعةً *** ومن بعدهم لا من أجلّ وأرحب

إليكم ذوي آل النّبيّ تطلّعت *** توازع من قلبي ظماءٌ وألبب

وجدنا لكم في آل حاميم آيةً *** تأوّلها منّا تقيٌّ ومعرب

فإنّي على الأمر الذي تكرهونه *** بقولي وفعلي ما استطعت لأجنب

يشيرون بالأيدي إليّ وقولهم *** ألا خاب هذا والمشيرون خيّب

فطائفةٌ قد أكفرتني بحبّهم *** وطائفة قالوا‏:‏ مسيءٌ ومذنب

يعيبونني من غيّهم وضلالهم *** على حبّكم بل يسخرون وأعجب

وقالوا ترابيّ هواه ودينه *** بذلك أدعى فيهم وألقّب

فلا زلت فيهم حيث يتّهمونني *** ولا زلت في أشياعهم أتقلّب

ألم ترني في حبّ آل محمّدٍ *** أروح وأغدر خائفاً أترقّب

كأني جانٍ محدثٌ وكأنّم *** بهم يتّقي من خشية العرّ أجرب

على أيّ جرمٍأم بأيّة سيرةٍ *** أعنّف في تقريظهم واؤنّب

أناسٌ بهم عزّت قريشٌ فأصبحو *** وفيهم خباء المكرمات المطّنب

روى الأصبهانيّ في الأغاني بسنده إلى محمد بن علي النوفلي عن أبيه أنه قال‏:‏ الكميت بن زيد الشاعر كان أوّل ما قال القصائد الهاشّميات فسترها ، ثم أتى الفرزدق بن غالب فقال له‏:‏ يا أبا فراس، إنّك شيخ مضر وشاعرها، وأنا ابن أخيك الكميت بن زيد الأسديّ‏.‏ قال له‏:‏ صدقت، أنت ابن أخي فما حاجتك‏؟‏ قال‏:‏ نفث على لساني فقلت شعراً، فأحببت أن أعرضه عليك، فإن كان حسناً أمرتني بإذاعته، وإن كان قبيحاً أمرتني بستره وكنت أولى من ستره عليّ‏.‏ فقال له الفرزدق‏:‏ أمّا عقلك فحسنٌ، وإنّي لأرجو أن يكون شعرك على قدر عقلك، فأنشدني ما قلت‏.‏

فأنشده‏:‏ طربت وما شوقاً إلى البيض أطرب قال‏:‏ فقال لي‏:‏ فيما تطرب يا ابن أخي‏؟‏ فقال‏:‏ ولا لعباً منّي وذو الشيب يلعب قال‏:‏ بلى يا ابن أخي، فالعب فإنّك في أوان اللعب‏.‏ فقال‏:‏ ولم يلهني دارٌ ولا رسم منزلٍ البيت قال‏:‏ فما يطربك يا ابن أخي‏؟‏ فقال‏:‏ ولا السّانحات البارحات عشيّة البيت فقال‏:‏ أجل، لا تتطيّر‏.‏ فقال‏:‏ ولكن إلى أهل الفضائل والنّهى البيت فقال‏:‏ ومن هؤلاء ويحك‏؟‏ فقال‏:‏ إلى النّفر البيض الذين بحبّهم البيت فقال‏:‏ أرحني ويحك، من هؤلاء‏؟‏ فقال‏:‏ بني هاشم رهط النّبيّ فإنّني البيت فقال له الفرزدق‏:‏ أذع أذع يا ابن أخي، أنت والله أشعر من مضى وأشعر من بقي‏.‏

وعن عكرمة الضّبي عن أبيه قال‏:‏ أدركت الناس بالكوفة، من لم يرو‏:‏ طربت وما شوقاً إلى البيض أطرب فليس بشيعيّ‏.‏ ومن لم يرو‏:‏ ذكر القلب إلفه المهجورا فليس بأمويّ‏.‏ ومن لم يرو‏:‏ هلاّ عرفت منازلاً بالأبرق فليس بمهلبيّ‏.‏

قوله‏:‏ طربت وما شوقاً الخ ، استشهد به أبو حيّان على تقديم المفعول له على عامله، ردّاً على من منع ذلك، فإنّ شوقاًمفعول له مقدّم على عامله وهو أطرب‏.‏ واستشهد به ابن هشام أيضاً في المغني على أنّ همزة الاستفهام لكونها أصلاً جاز حذفها سواء كانت مع أم لا، فإنّه أراد، فإنّه أراد‏:‏ وذو الشيب يلعب‏؟‏ والاستفهام إنكاريّ‏.‏

وقال شارح السبع الهاشميّات‏:‏ ذو الشيب خبر وليس باستفهام، والمعنى لم أطرب شوقاً إلى البيض، ولا طربت لعباً منّي وأنا ذو الشيب، وقد يلعب ذو الشيب ويطرب وإن كان قبيحاً به، ولكنّ طربي إلى أهل الفضائل والنّهى‏.‏

وقوله‏:‏ ولا أنا مّمن يزجر الطير الخ ، همّه فاعل يزجر والطير مفعوله‏.‏ قال ابن الأثير في النهاية‏:‏ الزجر للطير هو التّيمن والتشاؤم بها والتفاؤل بطيرانها، كالسانح والبارح، وهو نوع من الكهانة والعيافة‏.‏ انتهى‏.‏

وقال ابن رشيق في العمدة‏:‏ الغراب أعظم ما يتطيّرون به، ويتشاءمون بالثور الأعضب وهو المكسور القرن‏.‏ والسانح ما ولاّك ميامنه، والبارح ما ولاّك مياسره، واهل نجد تتيمّن بالأوّل وتتشاءم بالثاني، وأهل العالية على عكس هذا‏.‏ وأنشد البيتين‏.‏

وفي السانحات جوّز الأخفش النصب للعطف على الطير‏.‏

وقوله‏:‏ ترى حبّهم عاراً الخ استشهد بع ابن هشام في شرح الألفيّة على جواز حذف مفعولي باب ظنّ للدّليل‏.‏

وقوله‏:‏ ومالي إلاّ آل أحمد الخ استشهد به النّحاة، منهم صاحب الجمل على تقديم المستثنى على المستثنى منه‏.‏ والمشعب‏:‏ الطريق، يقول‏:‏ مالي مذهب إلاّ طريق الحقّ الذي هو حبّ آل النبيّ وتفضيلهم صلّى الله عليه وسلّم‏.‏

وقوله‏:‏ وجدنا لكم الخ آل حم اسم للسّور السبع التي أولها حم، ويقال لها أيضاً الحواميم، وأراد الآية التي في حمعسق‏:‏ قل لا أسئلكم عليه أجراً إلاّ المودّة في القربى يقول‏:‏ من تأوّل هذه الآية لم يسعه إلاّ التشيّع في آل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وإبداء المودّة لهم على تقيّةٍ كانت وغير تقيّة‏.‏

وقوله‏:‏ تقيٌّ ومعرب ، قال الجوهريّ‏:‏ أعرب بحجتّه إذا أفصح بها ولم يتّق أحداً‏.‏ وأنشد هذا البيت، ثم قال‏:‏ يعني المفصح بالتّفضيل والساكت عنه للتّقيّة‏.‏ وهذا البيت من شواهد سيبويه، أورده شاهداً لترك صرف حاميم لكونه وافق بناء ما لا ينصرف من الأعجمية نحو قابيل وهابيل‏.‏

قال الأعلم‏:‏ جعل حاميم اسماً للكلمة، ثم أضاف السور إليها كإضافة النسب إلى قرابة، كما تقولى آل فلان‏.‏

وقوله‏:‏ ألم ترني في حبّ آل محمد الخ قال السيوطيّ في شرح أبيات المغني‏:‏ أخرج ابن عساكر عن محمد بن سهل قال‏:‏ قال الكميت‏:‏ رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في المنام وأنا مختفٍ فقال لي‏:‏ ممّ خوفك‏؟‏ فقلت‏:‏ يا رسول الله، من بني أميّة‏.‏

ثم أنشدته‏:‏ ألم ترني من حبّ آل محمدٍ البيت فقال لي صلّى الله عليه وسلّم‏:‏ أظهر فقد أمنّك الله في الدّنيا والآخرة ‏.‏

وفي الأغاني للأصبهاني بسنده إلى إبراهيم بن سعيد الأسديّ عن أبيه قال‏:‏ رأيت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في المنام فقال لي‏:‏ من أيّ الناس أنت‏؟‏ قلت‏:‏ من العرب‏.‏ قال‏:‏ من أيّ العرب‏؟‏ قلت‏:‏ من بني أسد‏.‏ قال‏:‏ من أسد بن خزيمة‏؟‏ قلت‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ أهلاليٌّ أنت‏؟‏ قلت‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ أتعرف الكميت بن زيد‏؟‏ قلت‏:‏ يا رسول الله، عمّي ومن قبيلتي‏.‏ قال‏:‏ أتحفظ من شعره شيئاً‏؟‏ قلت‏:‏ نعم، قال‏:‏ أنشدني‏:‏ طربت وما شوقاً إلى البيض أطرب قال‏:‏ فأنشدته حتى بلغت إلى قوله‏:‏ فما لي إلاّ آل أحمد شيعةٌ البيت فقال لي‏:‏ إذا أصبحت فاقرأ عليه السّلام وقل له‏:‏ قد غفر الله لك بهذه القصيدة ‏.‏

وروى أيضاً بسنده إلى دعبل بن عليّ الخزاعيّ قال‏:‏ رأيت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في النوم فقال لي‏:‏ مالك وللكميت بم زيد‏؟‏ فقلت‏:‏ يا رسول الله، ما بيني وبينه إلاّ كما بين الشعراء‏.‏ فقال لي‏:‏ لا تفعل، أليس هو القائل‏:‏

فلا زلت فيهم حيث يتهمونني *** ولا زلت في أشياعهم أتقلّب

فإنّ الله قد غفر له بهذا البيت‏.‏ فانتهيت عن الكميت بعدها ‏.‏

وروى أيضاً بسنده إلى نصر بن مزاحم المنقريّ أنه رأى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في النوم وبين يديه رجلٌ ينشده‏:‏ الخفيف من لقلبٍ متيّمٍ مستهام قال‏:‏ فسألت عنه فقيل لي‏:‏ هذا الكميت بن زيد الأسديّ‏.‏ قال‏:‏ فجعل النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقول‏:‏ جزاك الله خيراً ‏.‏ وأثنى عليه‏.‏

وأنشد بعده‏:‏ وهو

الشاهد الثالث بعد الثلاثمائة

الوافر

ألا قبح الإله بني زيادٍ *** وحيّ أبيهم قبح الحمار

على أنّ لفظ حيّ من حيّ زيدٍ يستعمل في التأكيد، بمعنى ذاته وعينه وإن كان ميتاً، بعد أن كان بمعنى ضدّ الميّت، كما شرحه الشارح‏.‏

وكأنه فهم أنّ ما بعد حيّ في البيتين ميّت فبنى كلامه هذا عليه، وإلاّ فلم يقل به أحدٌ بل صرّح ابن السكيت في كتاب المذكّر والمؤّنث بأن مثل هذا لا يقال إلاّ والمضاف إليه حيّ موجود غير معدو م، وأنشد هذين البيتين بعينهما وجعل لفظ حيّ مما يقع على المذكّر والمؤنّث، لكن إذا كان المضاف إليه مؤنّثاً فلا بدّ من تأنيث فعله‏.‏ قال‏:‏ رأيت العرب قد أفردت مما يقع على المذكر والمؤنث شيئاً لا يكادون يذكرون فعله، ولفظه المذكر‏.‏

من ذلك قولك‏:‏ أتيتك وحيّ فلانة شاهجة، وحيّك وحيّ زيد قائم‏.‏ ولم أسمع وحي فلانة شاهدٌ - أي‏:‏ بتذكير شاهد - وذلك أنهم إنّما قصدوا بالخبر عن فلانة إذا كانت حيّة غير ميتة‏.‏ انتهى‏.‏

ومثله لابن جنّي في المحتسب عند إنشاده هذا البيت قال‏:‏ أي وقبح أباهم الحيّ الذي يقال له أبوهم‏.‏

ومنه قول الآخر‏:‏ البسيط وحيّ بكرٍ طعنّا طعنةً بحرا أي‏:‏ الإنسان الحيّ الذي يسمّى بقولهم بكر‏.‏

وقال في الخصائص ، أي‏:‏ والشخص المسمّى بكراً طعنا‏.‏ فحيّ هاهنا مذكر حيّة، أي‏:‏ وشخص بكر الحيّ طعنا‏.‏

ومثله قول الآخر‏:‏ الكامل يا قرّ إنّ أباك حيّ خويلدٍ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ البيت أي‏:‏ إنّ أباك الشخص الحيّ خويلداً‏.‏

وكذلك قول الآخر‏:‏ ألا قبح الإله بني زياد‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ البيت أي‏:‏ أباهم الشخص الحيّ‏.‏ وقال‏:‏ وليس الحيّ هنا هو الذي يراد به القبيلة، كقولك حيّ تميم وقبيلة بكر، إنّما هو كقولك‏:‏ هذا رجلٌ حيٌّ وامرأة حيّة‏.‏

وجعل ابني جنّي هذه الإضافة من إضافة المسمّى إلى اسمه، وبيّنها كما رأيت‏.‏ وخالفه الشارح المحقّق فجعلها من إضافة العامّ إلى الخاصّ‏.‏

ومن حكم بزيادة حيّ كصاحب اللبّ جعل الإضافة من قبيل إضافة الملغى إلى المعتبر، كما قال ابن عقيل في شرح التسهيل ‏.‏

ومّمن ارتضى الزيادة الزمخشريّ في المفصّل فإنه قال‏:‏ قالوا‏:‏ إنّ الاسم مقحمٌ دخوله وخروجه سواء، وقد حكي عنهم حيّ فلانة شاهدٌ، بدون تأنيث الخبر‏.‏ وتقدّم طعن ابن السكيت فيه، لكن يرد عليه ما أنشده أبو علي في الإيضاح الشعريّ من قول الشاعر‏:‏ لو أنّ حي الغانيات وحشا ومن العجب قول شارحه المظفّري‏:‏ لفظ حيّ زائد ومعناه الشخص، فكأنك قلت‏:‏ هذا الشخص زيد، فكما أنّ لفظ شخص زائد فكذلك لفظ حيّ‏.‏ وقوله بعد هذا‏:‏ قيل ولا يضاف لفظ حيّ إلاّ بعد موت المضاف إليه، صوابه إلاّ قبل موت المضاف إليه‏.‏

ومما ورد عن العرب من إضافة حيّ إليه ما قاله الشارح قبل هذا البيت بصفحةٍ قالهنّ حيّ رباح بإقحام حيّ‏.‏

قال المظفري‏:‏ يعني سمع الأخفش أعرابيّاً أنشد أبياتاً فقيل له‏:‏ من قال هذه الأبيات‏؟‏ فقال‏:‏ قالهن حيّ رباح بزيادة حيّ، أي‏:‏ قالهنّ رباح‏.‏ انتهى‏.‏

ورباح بكسر الراء بعدها باء موحدة‏.‏ وهو مأخوذ من الإيضاح الشعري لأبي علي، قال‏:‏ حكى أبو الحسن الأخفش في أبيات أنه سمع من يقول فيها‏:‏ قالهنّ حيّ رباح‏.‏

وأنشد‏:‏ الوافر

أبو بحر أشدّ النّاس منّ *** علينا بعد حيّ أبي المغيرة

وقوله‏:‏ ألا قبح الإله الخ هذا البيت من جملة أبيات ليزيد بن ربيعة بن مفرّغ الحميريّ‏.‏

ألا هنا كلمة يستفتح بها الكلام، ومعناها تنبيه المخاطب لسماع ما يأتي بعدها، وجملة قبح الإله دعائيّة، يقال قبحه الله يقبحه بفتح الموحدة فيهما أي‏:‏ نّحاه عن الخير‏.‏

وفي التنزيل‏:‏ هم من المقبوحين أي‏:‏ المبعدين عن الفوز‏.‏ والمصدر القبح بفتح القاف، والاسم القبح بضمّها يقال‏:‏ قبحاً له وقبحاً‏.‏ والإله تقدّم أنه لا يجمع بين أل وهمزة إله إلاّ على القلّة لكون أل في الله بدلاً من همزة إله‏.‏ وزياد هو زياد بن سميّة، وهي جاريةٌ للحارث بن كلدة الطّبيب الثّقفيّ، كان زوّجها بعبدٍ له روميّ اسمه عبيد، فولدت له زياداً على فراشه‏.‏ وكان أبو سفيان سافر في الجاهلية إلى الطائف قبل أن يسلم، فواقعها بواسطة أبي مريم الخمّار، فيقال إنّها علقت منه بزياد‏.‏ ثم إنّ معاوية أحضر من شهد لزيادٍ بالنسب واستلحقه بأبي سفيان، فقيل زياد بن أبيه، أي‏:‏ ابن أبي معاوية‏.‏ ويقال له أيضاً زياد بن سميّة، نسبة إلى أمه‏.‏

وهذه أول واقعة خولفت فيها الشريعة المطهّرة علانية، لصريح قوله صلّى الله عليه وسلّم‏:‏ الولد للفراش وللعاهر الحجر ‏.‏ وأعظم الناس ذلك وأنكروه، خصوصاً بني أميّة لكونه ابن عبدٍ روميّ صار من بني أمية‏.‏ وقيل فيه أشعارٌ، منها قول يزيد صاحب البيت الشاهد‏:‏ الوافر

ألآ أبلغ معاوية بن حربٍ *** مغلغلة من الرجل اليماني

أتغضب أن يقال أبوك عفٌّ *** وترضى أن يقال أبوك زاني

فأشهد إنّ رحمك من زيادٍ *** كرحم الفيل من ولد الأتان

وأشهد أنّها ولدت زياد *** وصخرٌ من سميّة غير داني

وقصة الاستلحاق مفصّلة في التواريخ‏.‏

قال أبو عبيد البكريّ في شرح أمالي القالي‏:‏ كتاب المثالب لأبي عبيدة أصله لزياد بن أبيه، فإنّه لّما ادّعى أبا سفيان أباً، علم أنّ العرب لا تقرّ له بذلك مع علمهم بنسبة، فعمل كتاب المثالب وألصق بالعرب كلّ عيب وعار وباطل وإفك وبهت‏.‏ انتهى‏.‏

وبنو زيادٍ المشهور منهم‏:‏ عبّاد ولي سجستان وما والاها، ومنهم عبيد الله بن زياد الشقيّ الخبيث، قاتل الحسين بن علي رضي الله عنهما‏.‏

وقوله‏:‏ وحيّ أبيهم معطوف على بني، أي‏:‏ وقبح الله أباهم زياداً‏.‏

وقوله‏:‏ قبح الحمار هو بفتح القاف مصدر تشبيهيّ، أي‏:‏ قبحهم الله قبحاً مثل قبح الحمار‏.‏ وإنّما ذكر الحمار لأنّه مثلٌ في المذلّة والاستهانة به، ولأنّ صوته أنكر الأصوات وأبشعها‏.‏ ويزيد شاعر إسلاميّ من شعراء الدولة الأمويّة، وهو أبو عثمان يزيد ابن ربيعة بن مفرّغ بن ذي العشيرة بن الحارث، وينتهي نسبه إلى زيد بن يحصب الحميريّ‏.‏

وقال ابن قتيبة في كتاب الشعراء‏:‏ هو يزيد بن ربيعة بن مفرغ الحميريّ، حليف لقريش، ويقال إنّه كان عبداً للضحاك بن يغوث الهلاليّ فأنعم عليه‏.‏ انتهى‏.‏

ومفرّغ بكسر الراء المشدّدة‏:‏ لقب جده، سمّي به لأنّه راهن على شرب سقاء لبن، فشربه حتّى فرّغه، فسمّي مفرّغاً‏.‏ وقال النوفليّ‏:‏ كان حدّاداً باليمن فعمل قفلاً لامرأةٍ وشرط عليها عند فراغه منه أن تجيئه بكرش من لبن، ففعلت فشرب منه ووضعه، فقالت‏:‏ ردّ عليّ الكرش، فقال‏:‏ ما عندي ما أفرّغه فيه‏.‏ قالت‏:‏ لا بدّ من ذلك‏.‏ ففرّغه في جوفه فقالت‏:‏ إنّك لمفرّغ‏.‏ فعرف به‏.‏

وكان السبب في هجو زياد وبينه، هو ما رواه الأصبهانيّ في الأغاني أنّ سعيد بن عثمان بن عفان لما ولي خراسان استصحب ابن مفرّغ فلم يصحبه، وصحب عبّاد بن زياد، فقال له سعيد بن عثمان‏:‏ أما إذ أبيت صحبتي واخترت عبّاداً عليّ فاحفظ ما أوصيك به‏:‏ إنّ عباداً رجلٌ لئيم، فإيّاك والدّالة عليه وإن دعاك إليها من نفسه، فإنّها خدعةٌ منه لك عن نفسك، وأقلل زيارته فإنّه طرفٌ ملول، ولا تفاخره وإن فاخرك، فإنّه لا يحتمل لك ما كنت أحتمله‏.‏

ثم دعا سعيدٌ بمال فدفعه إليه وقال‏:‏ استعن بهذا على سفرك، فإن صلح لك مكانك من عبّاد، وإلاّ فمكانك عندي ممهّد‏.‏ ثم سار سعيد من خراسان، ولما بلغ عبيد الله بن زياد صحبة ابن مفرّغ أخاه عباداً شقّ عليه، فلما سار عبّاد إلى سجستان أميراً عليها شيّعه عبيد الله، وشيّعه الناس، فلما أراد عبيد الله أن يودّع أخاه دعا ابن مفرّغ فقال له‏:‏ إنّك سألت أخي عباداً أن تصحبه فأجابك إلى ذلك، وقد شقّ عليّ‏!‏ فقال ابن مفرّغ‏:‏ ولم أصلحك الله‏؟‏ فقال‏:‏ لأنّ الشاعر لا يقنعه من الناس ما يقنع بعضهم من بعض، لأنه يظن فيجعل الظنّ يقيناً، ولا يعذر في بعض العذر؛ وإنّ عبّاداً يقدم على أرض حربٍ فيشتغل بحروبه وخراجه عنك، فلا تعذره فتكسبنا عاراً وشرّاً‏!‏ فقال‏:‏ لست كما ظنّ الأمير، وإنّ لمعروفه عندي شكراً كثيراً، وإنّ عندي إن أغفل أمري عذراً ممهّداً‏.‏ قال‏:‏ لا، ولكن تضمن لي إن أبطأ عنك ما تحبّه ألا تعجل عليه حتّى تكتب إليّ‏.‏ قال‏:‏ نعم‏.‏

ثم لإنّ عبّاداً لما قدم سجستان اشتغل بحروبه فاستبطأه ابن مفرّغ ولم يكتب إلى عبيد الله كما ضمن له، ولكن بسط لسانه وهجاه - وكان عبّادٌ عظيم اللحية، فسارا ابن مفرّغ يوماً مع عبّاد فدخلت الريح فيها فنفشتها، فضحك ابن مفرّغ وقال لرجل من لخم كان إلى جانبه‏:‏ الوافر

ألا ليت اللّحى كانت حشيش *** فنعلفها دواب المسلمينا

فسعى به اللّخميّ إلى عبّاد فغضب من ذلك وقال‏:‏ لا تجمل عقوبته في هذه الساعة مع صحبته لي، وما أؤخرّها إلاّ لأشفي نفسي منه، فإنّه كان يقوم ويشتم أبي في عدّة مواطن‏.‏

وبلغ الخبر ابن مفرّغ فقال‏:‏ إنّي لأجد ريح الموت عند عبّاد‏!‏ ثم دخل عليه فقال‏:‏ أيها الأمير، إني كنت مع سعيد بن عثمان، وقد بلغك رأيه فيّ، ورأيت جميل أثره عليّ، وإني اخترتك عليه فلم أحظ منك بطائل، وإنّي أريد أن تأذن لي في الرجوع‏.‏

فقال له‏:‏ إنّي اخترتك كما اخترتني، واستصحبتك حين سألتني، فقد أعجلتني عن بلوغ محبّتي فيك، وقد طلبت الإذن لترجع إلى قومك فتفضحني عندهم، وأنت على الإذن قادرٌ بعد أن أقضي حقّك، فأقام وبلغ عبّاداً أنّه يسبّه وينال من عرضه‏.‏ وأجرى عبّادٌ الخيل يوماً فجاء سابقاً، فقال ابن مفرّغ‏:‏ الرجز

سبق عبّادٌ وصلّت لحيته *** وكان خرّازاً تجود فربته

قال المدائنيّ‏:‏ لنا بلغ عبّاداً هذا الشعر دعا به والمجلس حافل، فقال له‏:‏ أنشدني هجاء أبيك الذي هجي به‏.‏ فقال‏:‏ أيّها الأمير، ما كلّف أحدٌ قطٌّ مثل مما كلّفتني به‏!‏ فأمر غلاماً عجميّاً أن يصبّ على رأسه السوط إن لم ينشد، فأنشده أبياتاً هجى بها أبوه أوّله‏:‏ الكامل

قبح الإله ولا أقبّح غيره *** وجه الحمار ربيعة بن مفرّغ

وجعل عبّاد يتضاحك به، فخرج ابن مفرّغ وهو يقول‏:‏ والله لا يذهب شتم شيخي باطلاً‏.‏

فطلب‏؟‏‏؟‏‏؟‏‏؟‏‏؟‏ عليه العلل ودسّ إلى قوم كان لهم عليه ديوان أن يقتضوا مالهم عليه، ففعلوا فحبسه وضربه، وأمر ببيع سلاحه وخيله وأثاثه، وقسّم ثمنها بين غرمائه، ثم بعث إليه أن بعني الأراكة وبرداً، وكانت الأراكة قينة لابن المفرّغ وبردٌ غلامه، ربّاهما وكان شديد الضنّ بهما، فبعث إليه ابن مفرّغ‏:‏ أيبيع المرء نفسه ولده‏؟‏ فأضرّ به عبّاد حتّى أخذهما منه، وقيل اشتراهما رجلٌ من أهل خراسان، فلما دخلا منزلة قال له برد - وكان داهية أدبياً -‏:‏ أتدري ما شربت‏؟‏ قال‏:‏ نعم، شريتك وهذه الجارية‏.‏ قال‏:‏ لا والله، ما اشتريت إلاّ العار والدّمار وفضيحة الأبد‏!‏ فجزع الرجل وقال‏:‏ كيف ذلك ويلك‏؟‏ قال‏:‏ نحن ليزيد بن المفرّغ، وما أصاره والله إلى هذه الحال إلاّ لسانه وشرّه، أفتراه يهجو عبّاداً وهو أمير سجستان، وأخاه عبيد الله وهو أمير العراقيّين، وعمّه معاوية وهو الخليفة، ويمسك لسانه عنك وقد ابتعتني وأنا مثل ولده، وهذه الجارية وهي نفسه التي بين جنبيه‏؟‏‏!‏ فو الله ما أدري أحداً أدخل بيته أشأم على نفسه وأهله مّما أدخلته منزلك‏!‏ فقال‏:‏ أشهد أنّكما له، إن شئتما امضيا إليه، وإن شئتما تكونا له عندي‏.‏ قال‏:‏ فاكتب إليه بذلك‏.‏ فكتب إليه بذلك، فكتب إليه ابن مفرّغ يشكر فعله ويسأله أن يكونا عنده حتّى يفرّج الله عنه‏.‏

وفي بيعهما قال - وذكر تركه سعيد بن عثمان -‏:‏ مجزوء الكامل

أصرمت حبلك من أمامه *** من بعد أيّامٍ برامه

ورمقتها فوجدته *** كالضّلع ليس لها استقامه

لهفي على الرّأي الذي *** كانت عواقبه ندامه

تركي سعيداً ذا النّدى *** والبيت ترفعه الدّعامه

ليثاً إذا شهد الوغى *** ترك الهوى ومضى أمامه

فتحت سمر قندٌ له *** فبنى بعرصتها خيامه

وتبعت عبد بني عل *** ج تلك أشراط القيامه

جاءت به حبشيّةٌ *** سكّاء تحسبها نعامه

من نسوة سود الوجو *** ه ترى عليهنّ الدّمامه

وشريت برداً ليتني *** من بعد بردٍ كنت هامه

أبو بومةٍ تدعو صدىً *** بين المشقّر واليمامه

فالرّيح تبكي شجوه *** والبرق يلمع في الغمامه

والعبد يقرع بالعص *** والحرّ تكفيه الملامه

وقوله‏:‏ وشريت برداً البيت، استشهد به صاحب الكشّاف عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين يشرون الحياة الدّنيا بالآخرة على أنّ الشراء يأتي بمعنى البيع، فهو من الأضداد‏.‏ والهامة‏:‏ أثنى الصّدى، وهو ذكر البوم‏.‏

وفي مروج الذهب للمسعوديّ‏:‏ من العرب من يزعم أنّ النّفس طائر ينبسط في الجسم، فإذا مات الإنسان وقتل لم يزل يطيف به مستوحشاً يصدح على قبره، ويزعمون أنّ هذا الطائر يكون صغيراً ثم يكبر حتّى يكون كضرب من البوم، وهو أبداً مستوحش ويوجد في الديار المعطلّة، ومصارع القتلى والقبور وأنّها لم تزل عند ولد الميت ومخلّفه لتعلم ما يكون بعده فنخبره‏.‏

وقال أيضاً في بيعهم‏:‏ البسيط

شريت برداً وقد ملّكت صفقته *** لما تطلّبت في بيعي له رشدا

يا برد ما مسّنا دهرٌ أضرّ بن *** من قبل هذا ولا بعنا له ولدا

أمّا أراكه كانت من محارمن *** عيشاً لذيذاً وكانت جنّة رغدا

لولا الدّواعي ولولا ما تعرّض لي *** من الحوادث ما فارقتها أبدا

ثم إنّ ابن مفرّغ علم أنه إن أقام في الحبس على ذمّ عبّاد لم يزدد إلاّ شرّاً فجعل يقول للناس إذا سئل عن حبسه‏:‏ أنا رجلٌ أدّبه أميره ليقيم من أوده‏.‏‏.‏ فلما بلغ ذلك عبّاداً رقّ له فأطلقه، فهرب حتّى أتى البصرة ثم الشام، وجعل يتنقل في البلاد ويهجو بني زياد ويتأسّف على تركه صحبة سعيد، فمن ذلك قوله‏:‏ الخفيف

إن تركي ندى سعيد بن عثم *** ن فتى الجود ناصري وعديدي

واتّباعي أخا الضّرعة واللّؤ *** م لنقصٌ وفوت شأو بعيد

قلت واللّيل مطبق بعراه *** ليتني متّ قبل ترك سعيد

ثم إنّه هجا بني زياد حتّى ملأ منه البلاد، وتغنّى به أهل البصرة، فطلبه عبيد الله طلباً شديداً وكتب إلى معاوية - وقيل إلى يزيد - إنّ ابن مفرّغ هجا زياداً وبنيه بما هتكه في قبه، وفضح بنيه طول الدهر، وتعدّى ذلك إلأى أبي سفيان، فقذفه بالزّنى، وسبّ ولده وهرب إلى البصرة، وطلبته حتّى لفظته الأرض فلجأ إلى الشام يتمضّغ لحومنا ويهتك أعراضنا، وقد بعثت إليك بما هجانا به لتنتصف لما منه ‏.‏

فهرب ابن مفرّغ من الشام إلى البصرة فأجاره المنذر بن الجارود، وكانت بنت المنذر تحت عبيد الله، وكان المنذر من أكرم النّاس عليه، فاغترّ بذلك، فبلغ عبيد الله أن المنذر قد أجاره فبعث عبيد الله إلى المنذر، فلما دخل عليه بعث عبيد الله بالشّرط فكبسوا داره وأتوه بابن مفرّغ، فلما رآه الجارود قام إلى عبيد اللع فقال له‏:‏ أذكّرك الله أيها الأمير لا تخفر جواري فإني قد أجرته‏!‏ فقال عبيد الله‏:‏ يمدحك ويمدح آباءك، وقد هجاني وهجا أبي ثم تجيره عليّ، والله لا يكون ذلك أبداً‏!‏ فغضب المنذر وخرج‏.‏

وأقبل عبيد الله على ابن مفرّغ فقال‏:‏ بئسما صحبت به عبّاداً‏!‏ فقال‏:‏ بئسما صحبني عباد، اخترته على سعيد وأنفقت على صحبته جميع ما ملكته وظننت أنّه لا يخلو من عقل زيادٍ، وحلم معاوية، وسماحة قريش، فعدل عن ظنّي كلّه ثم عاملني بكلّ قبيح‏.‏ من حبس وغرم وضرب وشتم، فكنت كمن شام برقاً خلّباً في سحاب جهامٍ، فأراق ماءً طمعاً فمات عطشاً، وما هربت من أخيك إلاّ لما خفت أن يجري فيّ ما يندم عليه، وها أنا بين يديك فاصنع فيّ ما شئت‏!‏ فأمر بحبسه وكتب إلأى معاوية أن يأذن له في قتله، فكتب إليه‏:‏ إيّاك وقتله، ولكن تناوله بما ينكله ويشدّ سلطانك عليه؛ ولا تبلغ نفسه، فإنّ له عشيرة هم جندي وبطانتي، ولا يرضون بقتله إلاّ بالقود منك، فاحذر ذلك، واعلم أنّ الجد منّي ومنهم، وأنّك مرتهنٌ بنفسه، ولك في دون تلفها مندوحةٌ تشفي من الغيظ‏.‏

فلمّا ورد الكتاب أمر بابن مفرّغ فسقي نبيذاً حلواً مخلوطاً بالشبرم والتربد فأسهل بطنه، وطيف به على بعير في أزقّة البصرة وأسواقها، وقرن بهرّة وخنزير، وجعل يسلح والصبيان يتبعونه ويصيحون عليه، وألّح ما يخرج منه حتّى أضعفه فسقط، فقيل لعبيد الله‏:‏ إنّا لا نأمن أن يموت‏.‏ فأمر به فغسل فلمّا غسل قال‏:‏ الخفيف

يغسل الماء ما فعلت وقولي *** راسخٌ منك في العظام البوالي

ثم ردّه إلى الحبس‏.‏ وقيل لعبيد الله‏:‏ كيف اخترت له هذه العقوبة‏؟‏ قال‏:‏ لأنّه سلح علينا فأحببت أن تسلح عليه الخنزيرة والهرّة‏.‏

ثم إن عبيد الله أرسله إلى أخيه بسجستان، ووكلّ به رجالاً، وكان لّما هرب من عبّاد هجاه وكتب هجاءه على حيطان الخانات، فأمر عبيد الله الموكلين به أن يلزموه بمحو ما كتبه على الجيطان بأطافيره، فكان يفعل ذلك حتّى ذهبت أظافيره، فكان يمحو بعظام أصابعه‏.‏

وأمرهم أيضاً أن لا يتركوه يصليّ إلاّ إلى قبلة النّصارى إلى أن يسلموه إلى عبّاد، فحبسه وضيّق عليه، فلما طال حبسه استأجر رسولاً إلى دمشق وقال به‏:‏ إذا كان يوم الجمعة فقف على درج جامع دمشق، ثم أنشد هذه الأبيات بأرفع ما يمنك من صوتٍ، وهي‏:‏ البسيط

أبلغ لديك بني قحطان قاطبةً *** عضّت بأير أبيها سادة اليمن

أضحى دعيّ زيادٍ فقع فرقرةٍ *** يا للعجائب يلهو بابن ذي يزن

والحميريّ طريحٌ فوق مزبلةٍ *** هذا لعمركم غبنٌ من الغبن

قومةا فقولوا‏:‏ أمير المؤمنين لن *** حقٌ عليك ومنٌّ ليس كالمنن

فاكفف دعيّ زيادٍ عن أكارمن *** ماذا تزيد على الأحقاد والإحن

ففعل الرّسول ما أمر به، فحميت اليمانية غضبوا له ودخلوا إلى معاوية فسألوه فيه، فدافعهم عنه، فقاموا غضاباً والشرّ يلمع في وجوههم، فعرف ذلك معاوية منهم فوهبه لهم، ووجّه رجلاً من بني أسد يقال له خمخام، بريداً إلى عبّاد، وكتب له عهداً، وأمره أن يبدأ بالحبس فيخرج ابن مفرّغٍ منه، ويطلقه قبل أن يعلم عبّاد فيم قدم فيغتاله، ففعل ذلك فلما خرج من الحبس قرّبت بغلةٌ من بغال البريد فركبها فقال‏:‏ الطويل

عدس ما لعبّادعليك إمارةٌ *** أمنت وهذا تحملين طليق

وهو من جملة أبيات تأتي إن شاء الله تعالى في الموصول عند إنشاد هذا البيت هناك فلما دخل على معاوية بكى وقال‏:‏ ركب منّي ما لم يركب من مسلمٍ قط، على غير حدثٍ في الإسلام ولا خلع يدٍ من طاعة‏.‏ فقال له‏:‏ ألست القائل‏:‏

ألا أبلغ معاوية بن حرب *** مغلغلة من الرجل اليماني

الأبيات المتقدمة‏.‏ فقال‏:‏ لا، والذي عظّم حقّك ما قلتها، ولقد بلغني أنّ عبد الرحمن بن الحكم قالها ونسبها إليّ‏.‏ قال‏:‏ أفلم تقل كذا وكذا‏.‏‏.‏ وسرد أشعاره، ثم قال‏:‏ اذهب فقد عفوت عن جرمك فاسكن أيّ أرض شئت‏.‏ فاختار الموصل، ثم ارتاح إلأى البصرة فقدمها، فدخل على عبيد الله فاعتذر إليه وسأله الصّفح والأمان فأمنّه؛ فأقام بها مدّة ثم دخل عليه فقال‏:‏ أصلح الله الأمير إني قد ظننت أنّ نفسك لا تطيب لي بخير أبداً، ولي أعداءٌ ولا آمن سعيهم عليّ بالباطل، وقد رأيت أن أتباعد‏.‏ فقال له‏:‏ إلى أين شئت‏؟‏ فقال‏:‏ كرمان‏.‏

فكتب له إلى شريك بن الأعور، وهو عليها، بجائزة وقطيعة، فشخص إليها وأقام بها إلى أن مات في سنة تسع وستين في طاعون الجارف أيام مصعب بن الزّبير‏.‏

هذا ما لّخصته من الأغاني، وهو كشذرة من عقد نحر، وقطرة من قاموس بحر‏.‏

وأنشد بعده‏:‏ وهو